بسم الله الرحمن الرحيم
«طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس» .
خوفان يتحدّث عنهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : خوف الله ، وخوف الناس والحديث عن الخوف يقودنا إلى تفهم حقيقة تكوينية في عالم الإنسان ، هي منطلق علمي لفهم الخوف ، والتعامل مع تلك الحقيقة ، وهي أن كل ما في النفس الإنسانية من قوى وغرائز واستجابات ، قد أودعها الله سبحانه فيها ، هي لصالح الإنسان وخيره في الحياة . . من هذه الغرائز ، غريزة الخوف المنطلقة من مبدأ الشعور بالخطر .
فالخوف هو رد فعل الفرد على حالة الشعور بالخطر . أي هو موقف دفاعي ، وبذا يكون الخوف نعمة ، وأداة من أدوات حماية الحياة .
ويصنف الخوف بطبيعته إلى صنفين : الخوف الإيجابي ، وهو الشعور بالخطر الحقيقي . . وهو يساهم في حماية الأمن والنظام والاستقرار ، كالخوف من العقاب الذي يحول بين الإنسان وبين الإقدام على الجريمة والمعصية والعدوان ، والتجاوز على الآخرين ، وكالشعور بالخوف من الخطر الذي يهيِّئ الإنسان للدفاع عن نفسه ، غير أن هذه القوة الرادعة
والباعثة على حفظ الحياة والإصلاح والسلام الاجتماعي ، تتحول نقمة وحالة مرضية خطيرة ، تدمر الأهداف الفطرية الخيِّرة لهذه الغريزة إذا استعملت في جانبها السلبي .
والخوف السلبي هو الصنف الثاني من الخوف ، وهو مصدر المعاناة والشقاء النفسي ، ومصدر كثير من حالات انحراف الصحة النفسية والجسدية ، والخضوع للظلم والطغيان والنفاق ، وسحق الشخصية .
والحديث النبوي الشريف يميز لنا بين هذين اللونين من الخوف : الخوف الصحي الايجابي الذي يتحرك لصالح الإنسان وحفظ الأمن والنظام والصحة النفسية والجسدية ، ويوصل إلى مرضاة الله وسعادة الدنيا والآخرة ، وهو خوف الله .
وبين الخوف السلبي ، الحالة الانحرافية التي تقود إلى رذائل الأخلاق ، كالكذب والنفاق ، وكتمان الحق ، والرضى بالذل والمهانة . . والخضوع لإرادة الطغاة ومناصرة الظلم والعدوان .
وها هو البيان النبوي يقوم بتقديم أروع تحليل لمشكلة الخوف ، وفرز علمي وأخلاقي دقيق لها ، لتوفير الوعي السليم لنوازع الذات ، وكيفية استعمال الخوف ، وتوجيهه لصالح الإنسان .
إنّه يقسم الخوف إلى خوفين :
إن بعض الخوف من الناس، قد يكون خوفاً مقبولاً وتقرّه الأخلاق،
وأحكام الشريعة ، وموازين العقل السليم لأنه قائم على أساس الخوف من الله سبحانه ويتحرك في دائرة رضا الله سبحانه ، وهو الخوف على الدين والنفس والمال والعرض والأهل والأوطان . . ومن حق الإنسان أن يخاف على كل ذلك ، وهو غير الجبن الذي يعني انهيار الشخصية ، وضعف الإرادة عن المقاومة ، والرضا بالذل والمهانة ، وهو الخوف المَرضِي الهدّام .
إنّ الخوف الايجابي المشروع هو الخوف الذي تحدّث عنه القرآن بقوله :
(فأصبح في المدينة خائفاً يترقب .. ) (القصص / 18) .
(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنِّي لك من الناصحين * فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) (القصص / 20 ـ 21) .
(ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربِّي حكماً ) (الشعراء / 21) .
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) (النور / 55) .
وتتجسد خطورة تحكم الخوف السلبي في الإنسان عندما يتحول إلى خوف الإنسان من الإنسان فيقوده إلى الخضوع للظلم والفساد والرضا بالمعصية ، ليدفع عن نفسه غضب الطغاة ، وذوي المصالح والجاه، وليحفظ لنفسه مكاسب الدنيا من المال والجاه والسلطة . . الخ .
وكم عانت البشرية من هذا النمط من الخوف الهدام والجبن ، فلولا هذا الخوف لما وجد الطغاة من يعينهم على ممارسة الظلم والكفر والطغيان ولما وجد الجهّال من يمالئهم على جهلهم من الحكام وأدعياء العلم ، لذا نجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينير لنا درب الحياة بالأمن والطمأنينة ، فيميّز بين الخوف الصحي المشروع ، وبين الخوف المَرضِي الهدام .