على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإنسان بمثل قوله: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» إلخ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه، و قد كان من القصة أن الله قال لإبليس لما رجمه: «اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين» و فيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقا مهتدين على الصراط المستقيم، و فريقا ضالين حقا فهذا هو الذي بدأهم به و كذلك يعودون.
و قد بين ذلك في مواضع أخر من كلامه أوضح من ذلك و أصرح كقوله: «قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»:
الحجر: 42، و هذا قضاء حتم و صراط مستقيم إن الناس طائفتان طائفة ليس
لإبليس عليهم سلطان و هم الذين هداهم الله، و طائفة متبعون لإبليس غاوون و
هم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان و توليهم إياه قال: «كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله»: الحج: 4، و إنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم و توليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.
و نظيره في ذلك قوله تعالى: «قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين، و هذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال: «قال
اهبطا منها... فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من
أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى» إلخ:، طه: 124 و هو عمى الضلال.
و بعد ذلك كله فمن الممكن أن يكون قوله: «كما بدأكم تعودون»
إلخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق و المعنى: أقسطوا في أعمالكم و
أخلصوا لله سبحانه فإن الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أن تتفرقوا
فريقين فريقا يهديهم و فريقا يضلون عن الطريق و ستعودون إليه كما بدأكم
فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة بتولي الشياطين فأقسطوا و أخلصوا حتى
تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالين بولاية الشياطين.
فيكون الكلام جاريا مجرى قوله تعالى: «و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا»:
البقرة: 148 فإنه في عين أنه بين أولا أن لكل وجهة خاصة محتومة هو موليها
لا يتخلف عنه إن سعادة فسعادة و إن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانيا أن استبقوا
الخيرات، و لا يستقيم الأمر مع تحتم إحدى المنزلتين: السعادة و الشقاوة
لكن الكلام في معنى قولنا: إن كلا منكم لا محيص له عن وجهة متعينة في حقه
لازمة له إما الجنة و إما النار فاستبقوا الخيرات حتى تكونوا من أهل وجهة
السعادة دون غيرها.
و كذلك الأمر
فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنكم ستعودون فريقين كما بدأكم
فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم و أخلصوا لله سبحانه حتى تكونوا من
الفريق الذي هدى دون الفريق الذي حق عليهم الضلالة.
و من الممكن أن يكون قوله: «كما بدأكم» إلخ، كلاما مستأنفا و هو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الأقساط و الإخلاص على ما يتبادر من السياق.
و أما قوله: «إنهم اتخذوا الشياطين أولياء» فهو تعليل لثبوت الضلالة و لزومها لهم في قوله: «حق عليهم الضلالة» كان كلمة الضلال و الخسران صدرت من مصدر القضاء في حقهم مشروطا بولاية الشيطان كما يذكره في قوله: «كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله»: الحج: 4.
فلما تولوا الشياطين في الدنيا حقت عليهم الضلالة و لزمتهم لزوما لا انفكاك بعده أبدا و هذا نظير ما يستفاد من قوله: «و
قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم و حق عليهم القول في
أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين»: حم السجدة: 25.
و أما قوله: «و يحسبون أنهم مهتدون»
فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسر به معنى تحقق الضلالة و
لزومها فإن الإنسان مهما ركب غير طريق الحق و اعتنق الباطل و هو يعترف
بأنه من الباطل و لما ينس الحق أوشك أن يعود إلى الحق الذي فارقه و كان
مرجوا أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أما إذا اعتقد حقية الباطل الذي هو
عليه، و حسب أنه على الهدى و هو في ضلال فقد استقر فيه شيمة الغي و حقت
عليه الضلالة و لا يرجى معه فلاح أبدا.
فقوله: «و يحسبون أنهم مهتدون» كالتفسير لتحقق الضلالة لكونه من لوازمه، و قد قال تعالى في موضع آخر: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا»:
الكهف: 104، و قال تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة»:
البقرة: 7.
و إنه
الإنسان يسير على الفطرة و يعيش على الخلقة لا ينقاد إلا للحق و لا يخضع
إلا للصدق و لا يريد إلا ما فيه خيره و سعادته غير أنه إذا شمله التوفيق و
كان على الهدى طبق ما يطلبه و يقصده على حقيقة مصداقه و لم يعبد إلا الله
و هو الحق الذي يطلبه و لم يرد إلا الحياة الدائمة الخالدة و هي السعادة
التي يقصدها، و إذا ضل عن الصراط انتكس وجهه من الحق إلى الباطل و من
الخير إلى الشر و من السعادة إلى الشقاء فيتخذ إلهه هواه، و يعبد الشيطان،
و يخضع للأوثان، و أخلد إلى الأرض، و تعلق بالزخارف المادية الدنيوية و
تبصر إليها لكنه إنما يعمل ما يعمل بإذعان أنه هكذا ينبغي أن يعمل و حسبان
أنه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنه حق، و يركن إلى الشر أو الشقاء
بعنوان أنه خير و سعادة فالإدراك الفطري محفوظ له غير أنه يطبقه في مقام
العمل على غير مصداقه.
قال تعالى: «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها»: النساء: 47، و أما إنسان يتبع الباطل بما هو باطل، و يقصد الشقاء و الخسران بما هو شقاء و خسران فمن المحال ذلك.
قال تعالى: «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»:
الروم: 30 و شيء من العلل و الأسباب و منها الإنسان لا يريد غاية و لا
يفعل فعلا إلا إذا كان ملائما لنفسه حاملا لما فيه نفعه و سعادته، و ما
ربما يتراءى من خلاف فإنما هو في بادىء النظر لا بحسب الحقيقة و في نفس
الأمر.
هذا كله ما يقتضيه التدبر و إيفاء النظر من معنى قوله «كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة» إلخ، و هو يدور مدار كون «فريقا هدى» إلخ، حالا مبينا لوجه الشبه و المعنى المشترك بين البدء و العود سواء أخذنا الكلام مستأنفا أو واقعا موقع التعليل متصلا بما قبله.
و أما جمهور المفسرين فكأنهم متسالمون على أن قوله: «فريقا هدى»
حال مبين لكيفية العود فحسب دون العود و البدء جميعا، و أن المعنى المشترك
الذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلا من فسر البدء بالحياة
الدنيا و الخلق الأول كما تقدم و سيجيء، و كان ذلك فرارا منهم عن لزوم
الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالأوامر و النواهي، و قد عرفت أن
ذلك غير لازم.
و بالجملة
فقد اختلفوا في وجه اتصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل:
أنه إنذار بالبعث تأكيدا للأحكام المذكورة سابقا، و احتجاج عليه بالبدء
فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون مجازون، و إن بعد ذلك في عقولكم
فاعتبروا بالابتداء و اعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم
فتعودون في الخلق الثاني.
و فيه أنه
مبني على أن تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله، و أن
النكتة في التعرض لذلك هو الإنذار بالمجازاة، و السياق المناسب لهذا الغرض
أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس و
التصريح بالمجازاة التي هي العمدة في الغرض المسوق لأجله الكلام كما صنع
ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، و الآية خالية من ذلك.
و من قائل: أنه احتجاج على منكري البعث، و اتصاله بقوله تعالى قبل عدة آيات: «فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون».
فقوله: «كما بدأكم تعودون» معناه فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
و فيه: ما في الوجه السابق على أنه تحكم من غير دليل.
و من قائل: أنه كلام مستأنف.
و قد تقدم ذكره.
و من قائل:
أنه متصل بما سبقه، و المعنى: أخلصوا لله في حياتكم فإنكم تبعثون على ما
متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره.
و فيه: أنه
مبني على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة
ثم تشبيه بالعود و هو الحياة الآخرة بآخر الحياة الأولى المسماة بعثا، و
الآية - كما تقدم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى.
قوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد» إلى آخر الآية.
قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، انتهى.
أخذ الزينة
عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد، و هو إنما يكون
بالطبع للصلاة و الطواف و سائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزين
الجميل للصلاة و نحوها، و يشمل بإطلاقه صلوات الأعياد و الجماعات اليومية
و سائر وجوه العبادة و الذكر.
و قوله: «و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا» إلخ، أمران إباحيان و نهي تحريمي معلل بقوله: «إنه لا يحب المسرفين»
و الجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الإشارة إليه، و هي كما تقدم خطابات
عامة لا تختص بشرع دون شرع و لا بصنف من أصناف الناس دون صنف.
و من هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد» إلخ يدل على بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جميع البشر، و أن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة انتهى.
نعم تدل
الآية على أن هناك أحكاما عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، و أما
شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب و القرينة العقلية قائمة.
قوله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق» هذا من استخراج حكم خاص - بهذه الأمة - من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله: «ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون» و قوله و إذا فعلوا فاحشة» الآية.
و الاستفهام
إنكاري، و الزين يقابل الشين و هو ما يعاب به الإنسان فالزينة ما يرتفع به
العيب و يذهب بنفرة النفوس، و الإخراج كناية عن الإظهار و استعارة تخييلية
كأن الله سبحانه بإلهامه و هدايته الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع
الزينة التي يستحسنها مجتمعة و يستدعي انجذاب نفوسهم إليه و ارتفاع نفرتهم
و اشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة و قد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم.
و لو كان
الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة
يتزين بها قط و لا تنبه للزوم إيجادها لأن ملاك التنبه هو الحاجة.
لكنه لما لم
يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد و هم يعيشون بالإرادة و الكراهة و
الحب و البغض و الرضى و السخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه و
ما يستقبحونه من الهيئات و الأزياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم
بما يصلح ما فسد منهم و يزين ما يشين منهم و هو الزينة بأقسامها، و لعل
هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله: «لعباده».
و هذه
المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني، و هي من الآداب
العريقة التي تلازم المجتمعات و تترقى و تتنزل على حسب تقدم المدنية و
الحضارة و لو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع
و تلاشت أجزاؤه من حينه لأن معنى بطلانها ارتفاع الحسن و القبح و الحب و
البغض و الإرادة و الكراهة و أمثالها من بينهم، و لا مصداق للاجتماع
الإنساني عندئذ فافهم ذلك.
ثم الطيبات
من الرزق - و الطيب هو الملائم للطبع - هي الأنواع المختلفة مما يرتزق به
الإنسان بالتغذي منه، أو مطلق ما يستمد به في حياته و بقائه كأنواع المطعم
و المشرب و المنكح و المسكن و نحوها، و قد جهز الله سبحانه الإنسان بما
يحس بحاجته إلى أقسام الرزق و يستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة
في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته و هذا هو الطيب و الملاءمة
الطبيعية.
و ابتناء
حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد الإنسان في
حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه و أدواته التي جهز بها و يساعده
على بقاء تركيبه الذي ركب به، و ما جهز بشيء و لا ركب من جزء إلا لحاجة له
إليه فلو تعدى في شيء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى
تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شيء من سائر القوى
فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم.
فيضطر إلى
استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم و المشهية للمعدة و لا يزال يستعمل و
يفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة
واجبات الحياة، و أهمها الفكر السالم الحر و على هذا القياس.
و التعدي عن
طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شيء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم و لا هذا
العالم مخلوق له و أي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه
الذي أعده له الكون، و يسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة، و ينال غاية غير
غايته و هو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة و الشره، و يصوره له
الخيال بآخر ما يقدر و أقصى ما يمكن.
و الله
سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده و أظهرها و بينها
لهم من طريق الإلهام الفطري، و لا تلهم الفطرة إلا بشيء قامت حاجة الإنسان
إليه بحسبها.
و لا دليل
على إباحة عمل من الأعمال و سلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب
الوجود و الطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان
المحتاج و بين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى و الأدوات الباعثة
له إليه بحسب الخلقة و التكوين.
ثم يذكر بعطف
الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الإنكاري أن هناك أقساما من
الرزق طيبة ملائمة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في
وجوده، و لا يشعر بها و لا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها و
إلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه، و لا دليل على إباحة شيء من
الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية و الفقر التكويني إليه كما سمعت.
ثم يذكر
بالاستفهام الإنكاري أن إباحة زينة الله و الطيبات من الرزق مما لا ينبغي
أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل و القضاء الفطري.
و إباحة
الزينة و طيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها و الوسط العدل بين
الإفراط و التفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، و قد قال الله سبحانه
في الآية السابقة: «و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين» و قال فيما قبل ذلك: «قل أمر ربي بالقسط».
ففي التعدي
إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط من تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط، و
فساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام
فقلما ظهر فساد في البر و البحر و تنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل
المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس و إسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، و
هو الإنسان إذا جاوز حد الاعتدال، و تعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب
لوجهه لا يقف على حد و لا يلوي على شيء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط
التربية و يذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، و من هذا القليل الأمر الإلهي
بضروريات الحياة كالأكل و الشرب و اللبس و السكنى و أخذ الزينة.
قال صاحب
المنار، في بعض كلامه - و ما أجود ما قال: - و إنما يعرفها - يعني قيمة
الأمر بأخذ الزينة مع بساطته و وضوحه - من قراء تواريخ الأمم و الملل، و
علم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات و الغابات أفرادا و جماعات
يأوون إلى الكهوف و المغارات، و القبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر
البحار و جبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء و رجالا، و أن
الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا و علمهم لبس الثياب بإيجابه للستر و
الزينة إيجابا شرعيا.
و لما أسرف
بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه و
تحويلهم إلى ملتهم و لتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر
في رده أن في انتشار الإسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في
أهلها بحملهم على ترك العرى و إيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج
تجارة النسج الأوروبية فيهم
يتبع .